وصل «الختيار». ركض أولاد الحي باتجاهه. يعرفونه منذ مدة. لا يعرفون منذ متى تحديداً، لكنهم يسمعون أنه مذ وصل إلى المنطقة ولدت جمهورية اسمها «جمهورية الفاكهاني». جمهورية كاملة المواصفات، لها اقتصادها وسوقها وجامعتها ومدارسها وإعلامها وشرطتها وقضاؤها، وإن كانت لا تزيد مساحتها على كيلو متر مربع.
صارت تدخلها سيارات كثيرة بزجاج داكن. سمعوا أهلهم يتهامسون بأسماء قيادات ذلك الزمان. حينها لم تكن تعنيهم هذه الأسماء شيئاً. وحده اسم ياسر عرفات كان يجعلهم يفرحون. يعرف كيف يكسب ودهم كما يعرف كيف يجعل الكبار يحبونه. ما إن يهم بالنزول من مكتبه، حتى يكون قد ملأ جيابه بالسكاكر. يوزعها على الأولاد الذين يدورون حوله بسعادة، فيما أهالي الحي يرمقونه بإعجاب. أولاد الجيران كانوا محظوظين أكثر. كان يسمح لهم باللعب في مكتبه، حتى لو كان لديه زوار.
إنه الرمز الذي صار بينهم منذ غادر الأردن مع مقاتليه، بعد أيلول الأسود. حط الرحال قليلاً في دمشق، قبل أن يستقر في بيروت، التي كان يتردد عليها دائماً أيام العمل السري وبعد إطلاق حركة «فتح» في العام 1965. زنازين بيروت تعرفه أيضاً، هو الذي ألقي القبض عليه ثلاث مرات.. كان ذلك قبل أن تطوبه العاصمة اللبنانية زعيماً لها.
منذ «اتفاق القاهرة»، صار العمل الفدائي مشروعاً في الجنوب اللبناني، لكن الفاكهاني بقيت العاصمة المخفية للفدائيين. مجموعة مكاتب مدنية لعدد من الفصائل الفلسطينية، على رأسها «منظمة التحرير»، فيما القيادات العسكرية تتخذ من المخيمات مقراً لها. كان السلاح في العاصمة محظوراً. عندما يمر الفدائيون أمام مخفر أبو سهل، يخبئون أسلحتهم، حتى لا يلقى القبض عليهم.
عملياً، لم يظهر السلاح في الفاكهاني قبل أيار 1973. حين انكسرت شوكة الشرعية، بعد المعارك مع الجيش اللبناني، صار الحي البيروتي الذي شكّل امتداداً طبيعياً لمخيم شاتيلا قد تحول إلى مقر لعدد كبير من مكاتب المنظمات العربية والعالمية، التي احتمت تحت جناح «منظمة التحرير». الفصائل الفلسطينية كانت كثيرة أيضاً. من «فتح» و «الصاعقة» و «جبهة التحرير العربية» إلى «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» ـ جورج حبش والقيادة العامة و«الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين»، و«جبهة التحرير الفلسطينية» و «جبهة النضال الشعبي». بعد انطلاق الحرب الأهلية والانقسامات المتتالية صار العدد مضاعفاً.
فرقة الـ 17
المبنى القديم في شارع الدامرجي، خلف الجامعة العربية ما يزال شاهداً على عصره. كان مقر المنظمة في الطبقتين الرابعة والخامسة، فيما الأولى خصصت للحرس.. لفرقة الـ17. الطبقات الأخرى كان يسكنها أناس عاديون، أكملوا حياتهم بشكل طبيعي، بالرغم من الازدحام المفاجئ الذي طرأ على مبناهم وشارعهم ومنطقتهم. ابتسامة أبو عمار عند ملقاهم أو اندفاعته لمساعدة أي مشتكٍ أو طالب خدمة جعلتهم يشعرون بالأمان. كان مولعاً بكسب ود الناس. يزورهم. يحضر أفراحهم ومآتمهم، ويعرف كيف يجعلهم يحبونه. فرقة الـ17 المولجة بحماية عرفات كانت في استنفار دائم، نتيجة ميل «الختيار» الفطري إلى الخروج عن إجراءات الأمن. للمناسبة، تكثر الأقاويل حول هذه الفرقة التي يتميز أفرادها بارتداء القبعات الخضراء، وتحولت بعد انتقال عرفات إلى رام الله، وما تزال، إلى حرس الرئاسة الفلسطينية.
جذور الاسم مجهولة.. أو على الأقل غير مثبتة. لكل روايته التي يتمسك بها، حتى صار يمكن اعتبار كل الروايات صحيحة. إحداها تقول إن إحدى الوحدات العسكرية الفلسطينية التي شاركت في معارك أيلول 1970، لم يبق من عناصرها البالغين 169 مقاتلاً سوى 17 شخصاً (ثمة من يجزم أن العدد كان 140 وليس 17)، توجهوا إلى لبنان وأقاموا في حارة الناعمة وسماهم عرفات في إحدى مذكراته القوة الـ17، قبل أن ينتقلوا إلى الفاكهاني في بداية العام 1972، حيث صاروا يعرفون بالـ17، وبقوا كذلك بغض النظر عن تطور أعدادهم. وفيما يرجع البعض التسمية إلى رمزية الرقم 17 الذي يشير في ذاكرة الفدائيين إلى السبعة عشر فلسطينيا الذين سقطوا في 21 آذار 1968 في معركة الكرامة (نسبة إلى قرية الكرامة على الحدود الأردنية) ذات القيمة الرمزية في تاريخ المعارك الفلسطينية الفدائية، يكتفي البعض بالإشارة إلى أن الرقم 17 يمثل آخر رقمين من رقم هاتف أبو عمار، فيما يقول آخرون إن الفرقة ضمت عدداً من السجناء الذين تم تحريرهم من سجن الرمل، من دون أن يعرف مصدر التسمية.
غارو والفولفو
لم تتغير المنطقة تغيراً دراماتيكياً. ما تزال تحافظ على طابعها السكاني المختلط بين لبنانيين وفلسطينيين، كما على قاطنيها القدامى، الذين لم يبق من جمهوريتهم سوى قصص تعج بها الذاكرة. لكن اللافت أن هذه الذاكرة مسحت كثيراً من سواد تلك الفترة ليحل مكانها الحنين. لا أحد ينكر الأفعال الميليشياوية التي نمت مع فائض القوة.. لكن هؤلاء سريعاً يبررون ذلك بالأعمال الفردية التي لم تكن تقبلها القيادة. أولادهم لم يحملوا الكثير من الانتماء إلى الجمهورية. لا يعرف شبان ما بعد الحرب الكثير عن منطقتهم، كما أن من يمر بالفاكهاني لا يمكنه أن يجد أي أثر لذلك الزمان. صاحب المقهى الذي افتتح مؤخراً في أسفل مبنى «أبو شهلا» يجهل أن مبناه كان مقراً لياسر عرفات. لكن غارو الميكانيكي ما يزال صامداً، في المبنى المقابل، منذ العام 1965. لم يفارق الحي أبداً حتى في عز الحرب. عايش التطورات التي طرأت على المنطقة. وأثرت جيرة «الختيار» به كثيراً. أول ما يقوله عن أبي عمار أنه «بدون مبالغة كان معيش لبنان»، مشيراً إلى أن «المال الذي كان يخرج من هنا كان كافياً لإنشاء دورة اقتصادية كاملة». يتذكر أن الدولار تدنى إلى ليرتين و30 قرشاً مع استقرار أبي عمار في بيروت. تلك رواية يؤكدها أكثر من شخص. «منظمة التحرير» كانت أكبر من منظمة. كانت مصانع ومطابع ومؤسسات اجتماعية وإعلامية وخيرية وأمنية وعسكرية، توظف الآلاف من لبنانيين وفلسطينيين. قبل الحرب كانت المنظمات الفلسطينية تصدر 13 صحيفة ومجلة. وللمناسبة، لم يكن حينها الفلسطيني هو فلسطيني الجنسية. راجي الحكيم الذي كان مرافقاً لعرفات، ويعج مركز الرابطة الأهلية، التي يرأسها، بصوره مع «الأخ ياسر عرفات»، يصف نفسه بأنه ابن الثورة الفلسطينية. يقول إن كلمة فدائي كانت توحد «المنظمة» الجنسيات. كانوا فلسطينيين ولبنانيين وسودانيين وسوريين ويمنيين وجزائريين..، آمنوا يوماً أنهم قادرون على تحرير فلسطين.
لغارو قصته مع جاره، كما معظم أهالي الحي. يتذكر يوم أتاه أبو ذكي سائق عرفات، ليقول له قرشك حلال، بعدما استطاع أن يصلح سيارة الفولفو الخاصة بأبي عمار، والتي كان نقلها إلى الشام لإصلاحها في الشركة، فلم تصطلح.
يقول إن عرفات كان «قاسياً بالحق» مع ضباطه.
و معروفاً أيضاً أن عرفات عندما يريد أن يعاقب أحداً يقول له «روح أحبس حالك». ولا يخرجه إلا بعدما يتذكر. كان سريع الغضب، لكنه كان أيضاً يهدأ بسرعة. بالرغم من كل سلطته كان يحكى عن حنانه ورأفته.
من كان يزوره لأول مرة في مكتبه، كان يسبقه الارتباك، لكن «الختيار» يعرف جيداً كيف يكسر الرهبة. يقشر موزة من هنا وتفاحة من هناك بيديه ويقدمها إلى الزائر. يختصر المسافة، ويصير سهلاً حتى رمي النكات في حضرة القائد أو حتى التربيت على كتفه.
في الحرب اللبنانية، وقع المحظور. غالباً ما كان يصحو أهالي الحي على صوت الرصاص والقذائف قبل أن يتبينوا أن رفاق السلاح يتقاتلون في ما بينهم. كل ما كان يجري في العالم العربي ينعكس في «جمهورية الفاكهاني». إذا توترت العلاقة بين سوريا وليبيا يظهر ذلك في الفاكهاني وإذا توترت بين العراق وسوريا تنعكس في الفاكهاني.. وهكذا دواليك. كان عادياً أن تدور المعارك بين المبنى والآخر، لكن وحده عرفات يستطيع أن يحلها حتى لو كانت «فتح» جزءاً من المعركة. كان الحكم والحاكم في معظم الأحيان.
بعد انتهاء المعارك يسارع إلى إرسال من يكشف على الأضرار. التعويض جاهز وحبة مسك. من أصابت رصاصة أحد دواليب سيارته يعطيه ثمن أربعة دواليب ومن سرقت سيارته يعوض عليه، كما يعوض على من حرق محله أو منزله أو أتلفت بضاعته. ولأن المعارك كانت غالباً ما تؤدي إلى الركود والخسائر لأصحاب المحال في المنطقة، كان يتعمد في فترات الهدوء إرسال رجاله للتبضع من دكاكين الحي بمبالغ كبيرة. يشتري سلعاً ويوزعها على من يحتاجها.
حلاق الزعيم
لم ينس الحلاق محمد المصري حين أتت سيارة مرسيدس 180 يقلها ثائر صهر دلال المغربي، سائلاً إياه إمكانية الانتقال معه ليحلق لزبون. جمع محمد عدته، ولم يدر إلا وهو في منزل عرفات في الرواس. ارتبك ارتباكاً عظيماً خلال انتظاره «الزبون» لينتهي من لقاء زوار.
تلفت حوله فلم يجد ما يوحي أن هذا البيت يخص الزعيم الأشهر في لبنان. لا صالونات ولا من يحزنون. مجرد كراس متناثرة إلى جانب الحيطان، بما يسمح لها باستقبال أكبر عدد ممكن من الزائرين. دخل «الختيار» على الحلاق، مستبقاً ارتباكه بابتسامة. كان محمد شاباً في مقتبل العمر، أحس أن شعر الختيار وذقنه سيكونان معموديته في المهنة التي يحملها معه إلى اليوم. اعتذر عرفات عن تأخره، وجلس على كرسي راح يعدل مكانها بما يتناسب مع تقابلها مع مرآة مكسورة، سندت على الحائط.
يبتسم محمد مستذكراً ذلك اليوم، ومترحماً على تلك الأيام، ويقول «حلقت له مرتين. يتذكر وليد المصري، الذي يملك محلاً لبيع الأزهار، عندما كان أحد الضباط  كثير التصادم مع أهالي الحي. اتفق مع عدد من وجهاء المنطقة على زيارة عرفات للشكوى. لم ينس وليد ما سمعه حينها من الزعيم «الأسفنجة» القادر على امتصاص كل شيء: أولاد العائلات لا يدخلون إلى المقاومة.. نحن بحاجة إلى هؤلاء. قبل أن يضيف «لا تقلقوا أنا بربيهم» ومنذ ذلك الحين لم يظهر الضابط مجدداً.
دلال المغربي تلعب الكاراتيه
تركض دلال المغربي، التي تقطن في الحي نفسه. في المبنى ذي الشبابيك الزرقاء. يومياً يراها بائع الورد مرتدية بذلتها الرياضية. يسألها: هل تلعبين الكاراتيه. تبتسم ثم تقول أتمرن للذهاب إلى فلسطين. يبتسم سائلها ويكمل كل واحد طريقه. لم يكن يدرك أنها فعلاً ذاهبة إلى فلسطين.
مع الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في العام 1982، تحولت الفاكهاني إلى جحيم. الطائرات تقصف من السماء والبوارج من البحر. كل مبنى يشك أن عرفات يتوارى فيه يقصف.. ولما كانت النهاية قد اقتربت، سأل أحد الجيران أبا عمار: هل تريد أن تدمر بيروت التي احتضنتك، فأجابه لا سأنسحب منها. وهكذا كان. رحل الختيار إلى تونس.. والمقاتلون إلى البقاع.. و «أقفلت» جمهورية الفاكهاني.